آخر ورشة لنفخ الزجاج تلتقط أنفاس 4 آلاف عام من الإبداع الدمشقي.. فيديو

دبي - محمود عبدالرازق - ينفخ الحرفي أحمد الحلاق، المكنى بأبي محمود، الزجاج السائل عبر أنبوب معدني يلمع عاكسا ألسنة النار المتوهجة في "الكور"، للتشكل في نهاية المطاف قطعة بديعة من الزجاج الدمشقي التراثي.

رغم الشح في الوقود، وانقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة، ما زال أبو محمود وإخوته يفتحون ورشتهم صباح كل يوم، ومن أمام النار المتوهجة لموقدهم الخاص بصناعة الزجاج الدمشقي ينبلج الفن العفوي في صناعة النماذج الأثرية والتراثية، إلى جانب الكؤوس المعشقة.

يقول أبو محمود لـ"الخليج 365": نحن آخر عائلة تعمل في مهنة نفخ الزجاج في دمشق، نحاول تعليم أولادنا ما تعلمناه من أبائنا وأجدادنا على أمل البقاء والاستمرار وعدم التوقف عن العمل، وما يعنيه ذلك من اندثار حرفة دمشقية يناهز عمرها آلاف السنين.

يشكل أبو محمود النماذج الزجاجية من خلال التحكم بالنفخ والدحرجة على سطح أملس لقطعة حجرية تتموضع أمام فتحة "الكور"، وما إن تبرد العجينة الزجاجية قليلاً، حتى يلقي بها إلى النيران مجدداً، وعبر ملقط حديدي، ينهي تصميم تحفته.

تتراكم الصعوبات أمام عمل الرجل ذو الأعوام الخمسة والستين، ومع ذلك فهو يبذل قصارى جهده مع إخوته للحفاظ على حرفتهم التي ورثوها عن أجدادهم منذ مئات السنين، إذ إن الحصار الغربي، ونهب النفط السوري من آبار شرقي البلاد، يشكلان أبرز أعداء هذه المهنة التراثية الشرهة لمصادر الطاقة، والتي تشكل النار عمودها الفقري.

© Gulf 365 . Shams Molhemآخر ورشة لنفخ الزجاج في دمشق

آخر ورشة لنفخ الزجاج في دمشق

© Gulf 365 . Shams Molhem

يشعر الحرفي الدمشقي، صاحب المعمل الوحيد لصناعة نفخ الزجاج في سوريا، بالاعتزاز والفخر، بعد أن أدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) مهنته التقليدية العريقة كعنصر تراثي جديد باسم سوريا على قائمة الصون العاجل ضمن قوائم التراث الثقافي الإنساني.

وتعد دمشق عاصمة الزجاج المزخرف بما تنتجه من تحف محلاة بقطع من الذهب الخالص، وبما يبدعه حرفيوها من روائع زخرفية، وبما احتفظت به متاحف العالم من آثارهم بدءا بصناعة الأواني الزجاجية بطريقة النفخ والتكييف اليدوي، إلى صناعتها بطريقة القالب إلى التلوين على الزجاج، والزجاج المعشق، والحفر على الزجاج وصناعة الفسيفساء الزجاجية"، بحسب ما يؤكد أبو محمود.

© Gulf 365 . Shams Molhemآخر ورشة لنفخ الزجاج في دمشق

آخر ورشة لنفخ الزجاج في دمشق

© Gulf 365 . Shams Molhem

يقول الحرفي الدمشقي: "يرجع تاريخ نفخ الزجاج في دمشق لما يزيد على أربعين قرناً، وما أدخله الحرفيون الدمشقيون من التحسينات والابتكارات، جعل سوريا في العصر البيزنطي وفي أثناء الخلافة الأموية، البلد الرئيسي المصدر للزجاج في العالم، حيث اشتهرت الشام بمنتجاتها اليدوية، لما تمتاز به من طابع فني، ومن هنا باتت دمشق مقصداً للسياح وخبراء التحف".

يتذكر أبو محمود أيام الزمن الجميل، حين كان لدى السوريين القدرة على اقتناء التحف والأشغال اليدوية: "في دمشق وحدها كان هناك 17 مشغلا لإنتاج الزجاج اليدوي، لم يبق منها سوى مشغل واحد تحافظ عليه عائلتنا رغم انعدام حركة البيع والشراء في هذه الأيام، ويضيف: صنعنا عشرات الآلاف من القطع التي بيعت لسواح من مختلف مناطق العالم، لكن تصدير الإنتاج متوقف حالياً ويقتصر على بعض السائحين الذين يزورون دمشق".

© Gulf 365 . Shams Molhemآخر ورشة لنفخ الزجاج في دمشق

آخر ورشة لنفخ الزجاج في دمشق

© Gulf 365 . Shams Molhem

يتابع الحرفي الدمشقي: "أعمل في هذه الحرفة منذ كان عمري تسع سنوات، أحبها كثيرا، وأفتخر بأنني شيخ كار (عميد) فيها، أشعر بالاعتزاز اليوم بعد أن تم إدراجها على قائمة التراث الثقافي والإنساني، آملا أن تتعلم الأجيال القادمة هذه الصناعة وتحبها حتى يعود إليها الألق مثلما كانت أو أفضل".

© Gulf 365 . Shams Molhemآخر ورشة لنفخ الزجاج في دمشق

آخر ورشة لنفخ الزجاج في دمشق

© Gulf 365 . Shams Molhem

وكانت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونيسكو"، قد أعلنت إدراج نفخ الزجاج التقليدي كعنصر تراثي جديد باسم سوريا على قائمة الصون العاجل ضمن قوائم التراث الثقافي الإنساني.

وذكرت المنظمة إنه جرى إدراج نفخ الزجاج السوري التقليدي في عام 2023 على قائمة التراث الثقافي اللامادي الذي يحتاج إلى صون عاجل، بحكم أن هذه الحرفة تأثرت مثل باقي المهن التراثية بالحرب التي اندلعت في البلاد عام 2011، مع غياب السائح الأجنبي الذي كان يشتري منتجات مصنعة يدويا، والنقص الحاد في الوقود اللازم لتشغيل الورش، وهجرة أصحاب الخبرة في مثل هذه المهن.