فن ومشاهير

يا كحك العيد، يا بسكويت

ياسر رشاد - القاهرة - ما أن نصل إلى الأسبوع الأخير من رمضان حتى ننتقل جميعا لبيت جدتي استعدادا لخبيز العيد وما يشمله من كعك وبسكويت ومخبوزات أخرى لذيذة، أنتهي من سحوري برفقة الصغار والكبار من أبناء الأعمام والعمات وأجري على المطبخ حيث تجلس جدتي لإعداد العجين المخصص لكعك العيد، رائحة السمن المغلي تعبق المكان وتكسبه الدفء والحميمية، تطلب مني نثر السمسم المحمص على الدقيق ومعه المحلب ورائحة الكعك فأطيعها وأنا أشعر بتمييزها لي عن كل الحفيدات فيملأني الزهو والفخر، تناولني بضعة ملاعق من السكر وملعقة من الملح فأتعجب منها وأسألها لماذا الملح يا جدة والسكر بعد النضج سيغطيه فتبادرني بحكمة الايام:

 

 

 

  • لنعرف قيمة الحلو في حياتنا لابد لنا من طعم الملح.

 

أسمعها ولا افهم فتصمت تاركة للأيام مهمة إفهامي، تضيف بنفسها إناء الخميرة الذهبية الفائرة بينما تتمتم شفتاها بالأدعية بأن يبارك الله في اللمة ويزيد الخير والفرحة، وأن يضع البركة فيما تخبزه فيربو ويزيد، أنكمش بجوارها وأنا أرقب اندماجها في عجنها للمكونات وقد استحالت كما الآلهة الإغريقية تمنح الحياة وتحيل الجماد إلى كائنات نابضة.

 

  • الخميرة يا بنيتي روح حية، تحيي موات القمح المطحون وتطرح البركة في العجين فيكبر وينمو، تماما مثل طفل وليد تمنحه الدقائق والايام قوة وصلابة فيغدو رجلا عظيما أو امرأة تخرج الأحياء من رحمها.

 

تمتد الطبالي الخشبية في صحن البيت المكشوف للسماء، تحضر عمتي الصغرى الصاجات التي ستنتظم قطع الكعك فيها بصفوف طويلة تمهيدا لخبزها في الفرن بينما انقسمت الأعمال بين العمات جميعهن، هذه تقطع العجين إلى قطع متساوية وهذه تلينها بين كفيها والأخيرة تزينها بنقشات مبتكرة بواسطة منقاش نحاسي ثم تضعها في مكانها على الصاج، أسألها مستفسرة:

 

 

 

  • لما النقوش يا عمتي؟

 

فتجيبني:

 

  • النقش يكسب الكعكة تعرجات تجعلها تحتفظ بأكبر كمية من السكر، تماما كما روح الانسان تحتفظ بين ثنياتها بالعديد من المشاعر والانطباعات التي نقشتها التجارب وطبعتها على جدارها المحن، أما الروح الملساء عديمة التجربة فتفشل في ترك انطباع عنها تماما مثل كعك بلا سكر.

 

تلكز عمتي صغيرتها التي بدأت في البكاء رغبة في تدوير ماكينة تشكيل البسكويت مثلي وتطمئنها بأنها سيحين دورها عندما تكل يدي وأرغب في بعض الراحة، أبادر فور سماعي لكلام العمة بأنني لم أتعب ولن استريح حتى أنتهي من كل البسكويت الموجود، تغتاظ الصغيرة ويستحيل بكاءها صراخا فيتوجه الجميع بنظراتهم المتهِمة إلي فأترك الماكينة وقد استبد بي الغبن والقهر وأصعد إلى سطح البيت حيث تقوم جدتي بخبز الكعك، أنظر للسماء وقد بدأت أول خيوط النور في التمدد بالسماء فأبتسم، تجذبني جدتي من جلبابي وتقبلني قبلة مبللة بعرقها واللعاب أبادر بعدها بمسح وجهي خلسة كي لا تراني، تعطيني كعكة من أول الصاجات الناضجة فأخبرها أني صائمة فتضحك وتبادرني:

 

  • كعك ستك لا يفطر الصائمين شريطة ألا تخبري أحدا بذلك

 

ابتلعها سريعا وأجلس بجوارها أرقبها وهي تلقم النار قشا وحطبا من فروع الذرة والقمح الجافة فيتألق بيت النار بألسنة أسمع طقطقتها فيزداد شغفي وتحفزي.

أتركها قليلا وأمضي باتجاه قلب السطح المطل على صحن الدار، أموء كما القطط فتراني بنت العمة التي انفردت بماكينة البسكويت بعد اجباري على تركها وتبدأ في البكاء من جديد طمعا ورغبة في الصعود للسطح مثلي، أضحك وأنا ألمح الغيظ بعينيها بعد رفض عمتي لصعودها فأكشف لها سر الكعكة التي أعطتنيها الجدة وكيف أنها لا تفطر كما باقي الكعكات فيستبد بالجميع الضحك، تناديني ابنتي التي استيقظت لتشرب بعض الماء قبل موعد الإمساك فأستفيق من ذكرياتي بينما استحال البسكويت الخارج من الماكينة ثعبانا ملتفا حول بعضه، أقوم متكاسلة وأتجه للمطبخ لأشعل الفرن الذي يعمل بالغاز لا القش والحطب كفرن جدتي، أجلس أمامه وحيدة بعد أن وضعت بعض الصواني بداخله وبقيت في انتظار نضج ما بهم من كعك قمت بنقشه بمفردي، لم اسع لتذوقه بعد نضجه فهو ليس ككعك جدتي، كان كعكا يفطر الصائمين وكان خاليا من قبلات جدتي المبللة باللعاب التي لو عادت الآن أقسم أنني لن اسعى لمسحها.

 

 

 

 

علا عبد المنعم 

 

 

Advertisements

قد تقرأ أيضا